اعلان هيرميس

د.محمد راشد يكتب: الوهم بالتقسيط.. كيف يخفي التسويق النفسي تكلفة الفرصة الضائعة في السوق العقاري؟

في ظل القفزات السعرية المتلاحقة داخل السوق العقاري المصري، لم تعد آليات البيع والشراء قائمة على القيمة الفعلية للوحدة أو الحاجة الحقيقية للعميل، بل تحوّلت إلى لعبة نفسية معقدة تقودها شركات التطوير العقاري، مستخدمة سلاحًا ناعمًا يُدعى: “نظام التقسيط”.

من مجرد وسيلة تمويل، أصبح التقسيط أداة تسويقية تعتمد على التأثير النفسي، لا الحسابات المالية، وتعمل على تخدير إحساس العميل بوجع الدفع، عبر توزيع التكلفة على مدد زمنية طويلة. فما يبدو للعميل على الورق بأنه “فرصة مريحة” ما هو في الواقع إلا “تكلفة مؤجلة” قد تتجاوز قدرته الفعلية على السداد، بل وتحرمه من فرص أخرى بديلة ضاعت في زحام القسط الشهري.

شركات التطوير العقاري، مدفوعة بحدة المنافسة وتراجع القوة الشرائية، باتت تتفنن في إغراء العميل، لا من خلال جودة المنتج أو سعره العادل، بل من خلال “سهولة الدفع” فقط. فالعناوين الجذابة على الإعلانات تحمل وعودًا مثل: “امتلك الآن بمقدم 10% فقط”، أو “قسط حتى 15 سنة بدون فوائد”، بينما يغيب عن المشهد السؤال الأهم: ما هو السعر الحقيقي بعد التقسيط؟ وهل يعكس هذا السعر القيمة الفعلية للوحدة، أم هو فقط نتيجة لحيلة تسويقية مبنية على وهم القدرة على الشراء؟

في هذا السياق، يبرز مفهوم “تكلفة الفرصة الضائعة” كواحد من أهم المفاتيح لفهم ما يحدث. فحين يندفع العميل لشراء وحدة على أقساط طويلة، مدفوعًا بإحساسه المؤقت بالراحة، فهو غالبًا لا يحسب ما الذي كان يمكن أن يفعله بنفس هذه الأموال على مدار السنوات القادمة، من استثمار أو تملك بديل أو حتى تجنب التزامات تؤثر على استقراره المالي. إنها “فرصة بديلة” ضاعت، دون أن يشعر.

ما يعمّق هذه المعضلة أن علم الاقتصاد السلوكي يوضح لنا أن الإنسان يتأثر أكثر بمرونة الدفع وليس بحجم المبلغ الكامل. فينخدع بسهولة أمام قسط شهري يمكن تدبيره حاليًا، متجاهلًا أن مجموع هذه الأقساط قد يصل إلى ضعف أو ثلاثة أضعاف قيمة الوحدة الأصلية، بل وربما تنخفض قيمة هذه الوحدة نفسها بفعل عوامل السوق أو ضعف الطلب مستقبلاً، ما يعني أن العميل دفع أكثر مما يستحق فعليًا.

الأزمة لا تقف عند حدود المستهلك وحده، بل تمتد إلى بنية السوق العقاري نفسه. إذ أصبح سعر الوحدة في كثير من المشروعات لا يعكس تكلفة البناء أو قيمة الأرض، بل يعتمد كليًا على ما يمكن للمطور أن “يُقنع” العميل بدفعه شهريًا. وبذلك، تتحول القيمة السوقية إلى مجرد انعكاس للقدرة النفسية على القبول، لا للعرض والطلب الفعليين، مما ينذر بتكوين فقاعة سعرية مقلقة، خاصة في ظل غياب دور رقابي حقيقي على التسعير وآليات البيع.

وفي ظل هذا المشهد، تتحول العلاقة بين المطور العقاري والمشتري من علاقة قائمة على التبادل التجاري الواضح، إلى علاقة نفسية مشوشة، تتداخل فيها مشاعر الطمأنينة الكاذبة مع الالتزامات طويلة الأجل. فالمشتري يظن أنه امتلك ما لا يقدر عليه، والمطور يظن أنه ضمّن البيع، والسوق يظن أنه نشط، بينما الحقيقة أن الجميع يدور في فلك من الوهم المؤجل.

ولا يعني هذا أن التقسيط في حد ذاته ممارسة خاطئة أو يجب التخلي عنها. بل العكس، فأنظمة التمويل والتقسيط ضرورة اقتصادية في أي سوق صحي، لكنها تتحول إلى أداة تضليل حين تُستخدم لإخفاء السعر الحقيقي، أو للتلاعب بنفسيات العملاء، دون شفافية كاملة أو دراسات جدوى حقيقية تضمن توازن الأطراف.

وحتى يستقيم المشهد، يصبح من الضروري فرض شفافية إلزامية على جميع الإعلانات العقارية، توضح السعر النهائي للوحدة بعد التقسيط، وتلزم المطورين بإظهار الفارق بين الشراء النقدي والمؤجل. كما يجب على الجهات التنظيمية إعادة تقييم نماذج التسعير، ومنع أي ممارسات تسويقية تُضلل العميل نفسيًا، خاصة في قطاعات حيوية تمس أمنه الاجتماعي مثل السكن.
في النهاية، الوهم بالتقسيط ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل هو انعكاس لمعادلة مختلة بين العرض والطلب، تسندها نفسية مستهلك تبحث عن الأمان بأي ثمن، ويقابلها مطور يستغل هذا البحث لخلق منتج مغلف بإعلانات ناعمة، لكنه في جوهره قد يكون فخًا ماليًا طويل الأمد. وإذا لم تتم إعادة ضبط العلاقة بين الطرفين على أساس من الشفافية، والمحاسبة، والوعي، فإننا نبني مستقبلًا عقاريًا على رمال متحركة، لا على قواعد مستقرة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
د.محمد راشد يكتب: الوهم بالتقسيط.. كيف يخفي التسويق النفسي تكلفة الفرصة الضائعة في السوق العقاري؟ برعاية وزارة الإسكان .. نورث سكوير مول يستضيف بمدينة العلمين الجديدة ملتقى "بوابة استثمار البحر الم... هايد بارك تقدم أقوى حفل صيفي في سي شور رأس الحكمة بمشاركة تجمع لأول مرة الجسمي وأحمد سعد وديسكو مصر ماونتن ڤيو تحقق نتائج استثنائية وتسجل 65 مليار جنيه مبيعات في النصف الأول من 2025 هواوي تطلق موسم تقديم الخدمات عليوة جروب تنطلق رسميًا في السوق المصري بمحفظة مشروعات متكاملة بنك QNB مصر ومؤسسة "وقفية مصر" يُجددان التعاون خلال توقيع برتوكول لتنفيذ المرحلة الثانية من مشروع "أ... سيرا للتعليم تتوسع في منطقة البحر الأحمر عبر الاستحواذ على حصة استراتيجية في «المدرسة الفرنسية الدول... ابتاون 6 أكتوبر تُعلن عن شراكة استراتيجية مع فوري لتقديم حلول دفع رقمية متكاملة انطلاق النسخة التاسعة من المائدة المستديرة "ثنك كوميرشال" 8 سبتمبر المقبل