اعلان هيرميس

دكتور محمد راشد يكتب: البناء المستدام .. و معضلة المناخ والبناء

يستأثر قطاع البناء بنسبة لا يُستهان بها من الانبعاثات الكربونية، ويتسبّب قطاع البناء حول العالم بنسبة لا تقلّ عن 30 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة، ناهيك عن آثاره المدمّرة للبيئة، إن كان من ناحية الضرر البيئي في مواقع البناء، أو المخلّفات الناجمة عن أعمال الهدم أو استخراج المواد الخام، وإنتاجها ونقلها ، وبكل تأكيد إن تحقيق أهداف الاستدامه البيئيه من خلال تدشين أنماط العمران المستدام، مع مجاراة وتيرة تطوير مشاريع البنى التحتية الضخمة يستوجب إيجاد توازن دقيق لاعتماد ممارسات البناء المستدامة من دون أن يؤثّر ذلك على المهلة الزمنية لإنجاز المشروع وكلفته المالية ، وهنا يكمن التحدي كيف يُمكن تحقيق التوازن بين خطط النمو العمراني الاستراتيجي وبين تحقيق الحياد المناخي، دون تكبّد أي خسائر

 

وتُشكّل دول الخليج إحدى المناطق المشجعة لنمو قطاع البناء العالمي، إن كان على صعيد حجم الاستثمار في المشاريع أو ضخامتها، وبالفِعل، قُدّرت قيمة العقود الممنوحة في قطاعات البناء والبنى التحتية والصناعة بنحو 39,9 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2023، أي بزيادة نسبتها 110 في المئة مقارنةً بالربع الثاني من عام 2022، وفي نفس الوقت إلتزمت العديد من دول الخليج بتحقيق الحياد المناخي، فتُخطّط الإمارات مثلًا للوصول إلى صافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050 فيما تعتزم المملكة العربية السعودية الوصول إلى الهدف ذاته بحلول عام 2060.

إلا أن التساؤل الأهم يظل هو كيف تُراعي عقود البناء مفهوم الاستدامة البيئية ، فعلي سبيل المثال أدّت شركة آدِلشو جودارد دوراً محورياً في هذه المبادرة، فأسهمت في صياغة عدد من البنود المتعلّقة بالبناء المستدام التي نشرتها منظّمة Chancery Lane Project، ومِن بين هذه البنود نذكر على سبيل المثال بند Tristan’s، الذي يهدف إلى التشجيع على استخدام مواد البناء المستدامة بالرجوع إلى «ميزانية كربونية» متّفق عليها بين الأطراف المعنية، وفي حال تحقيق «فائض» في هذه الميزانية، يحصل المتعهّد على علاوة، فيما عدم التقيّد بها يعرّضه لتسديد التعويضات المقطوعة ، و على الرغم من هذه التطوّرات المشجّعة، لم نشهد بعد للأسف اعتماد هذه البنود على نطاق واسع على أرض الواقع، إذ يبقى التركيز منصبّاً على الدوافع الاقتصادية للمشروع، ألا وهي إنجازه ضمن المهمة الزمنية المحدّدة ووفق الميزانية المتّفق عليها، وفي ظلّ الضغوط التضخّمية التي فرضتها الأحداث العالمية الأخيرة، هناك مخاوف من أنّ الاستدامة لم تعد ضمن الأولويات، وخلال الفتره الأخيره بدأنا نرى في الشرق الأوسط بنوداً تتطرّق إلى حماية البيئة في عقود البناء، وتشمل الحدّ من هدر الموارد كي لا ينتهي بها الأمر في المكبّات، واستخدام المواد المستدامة لخفض البصمة الكربونية، والحدّ من الانبعاثات واستهلاك المياه، فضلاً عن اتّخاذ التدابير لحماية البيئة حول مواقع البناء.

ولن نكون مبالغين في ذكر أن قطاع البناء يفتقرعموماً إلى مرجعية عادلة ومتكافئة لقياس الاستدامة، مع العلم أنّ الأمور في طور التحسّن، فقد بدأ العمل على تأسيس المجلس الدولي لمعايير الاستدامة، الذي أطلقته المؤسسة الدولية لمعايير إعداد التقارير المالية IFRS في نوفمبر 2021 في أعقاب مؤتمر «كوب 26» الذي انعقد في غلاسغو، لتحديد معايير مرجعية عالمية شاملة للإفصاح عن معطيات الاستدامة انطلاقاً من احتياجات المستثمرين والأسواق المالية، هذا بالاضافه إلي دخول توجيه الاتحاد الأوروبي لإعداد تقارير استدامة الشركات حيّز التنفيذ في شهر يناير الفائت، ليفرض على الشركات كافة في الاتحاد الأوروبي الإبلاغ عن تأثيرها الاجتماعي والبيئي، فضلاً عن تأثير الأعمال على سياساتها المتعلقة بـ«الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة ، لذلك بدأنا نشهد إرساء مقاييس مرجعية وسُبل واضحة لتقييمها، لكن لا بدّ من بذل المزيد من الجهود حرصاً على إطلاع جميع الأطراف المعنية على المعايير التي سيُحكَمون على أساسها، والتأكّد من فهمهم إياها، وإلّا فإنّ غياب الوعي بهذه المعايير أو فهمها سيؤدّي إلى نزاعات مستمرّة، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بمطالبات التغيير في حال أُلزِم المقاولون بتغيير طرق عملهم تلبيةً لشروط مُبهمة.

وأخيرا ؛ لا يُمكن مواجهة هذه التحديات من دون تعاون بنّاء بين أصحاب العمل والمموّلين والمقاولين وسلسلة الإمداد بخصوص مستلزمات الاستدامة لمشروع البناء، وسُبُل تحقيقها بدءاً من مرحلة التأسيس، ومن المفترض أن يشمل هذا التعاون ما يلي إجراء المناقصات بحيث لا يقتصر تقييم مقدّمي العروض على التكاليف فحسب، بل أيضاً وفقاً لكثافة الانبعاثات الكربونية واستخدام المواد منخفضة الكربون (مثلاً الفولاذ الصديق للبيئة والخرسانة منخفضة الكربون ، هذا بجانب ضمّ بنود «الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة» إلى عقود البناء، على أن تشمل مقاييس قابلة للتقييم من البداية، تُحدّد بوضوح الأهداف المترتّبة على الأطراف المتعاقدة، بغياب هذه البنود، يصعب الامتثال إلى الاستدامة، وتُصبح النزاعات حتمية ، وكذلك تقديم المحفّزات إلى المقاولين وسلاسل إمدادهم بهدف خفض البصمة الكربونية، وذلك من خلال تقديم العلاوات.

من المؤكد أنّ قطاع البناء يُشكّل تحدياً من ناحية «الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة»، لكنه في الوقت ذاته يحمل معه فرصة سانحة ،فمن المُمكن تحقيق تغيير ملحوظ بمجرّد تطبيق بعض التحسينات البسيطة، ومن اللافت أن حدّ الأثر البيئي لمشاريع البناء لا يقتصر على مرحلة التشييد فحسب، بل هو ممكن أيضاً من خلال إنشاء مبنى يراعي الاستدامة البيئية لخفض الانبعاثات خلال المرحلة التشغيلية، بما يضمن تحقيق الريادة في مجال الاستدامة التي تُعتبر مسألة مُلحّة في يومنا هذا.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار